سيناريو الحرب العالمية- شبح يطل من غزة والشرق الأوسط

هل وَّدتْ حقًا أشباحُ الحربِ العالمية أوكرانيا، لتجنيب القارة الأوروبية ويلاتَ حربٍ عالميةٍ ثالثة، يكون شعبُها وميراثُها الحضاري وقودًا لها؟ أم أن هذا الكابوس آثرَ الانتقالَ إلى بؤرةِ الشرق الأوسط، في خضمِّ التحولاتِ الإقليمية والدولية المتسارعة التي تعصفُ بالمنطقة، والتي تفاقمتْ إثرَ حربِ الإبادةِ الجماعيةِ الصهيونية-الأمريكيةِ الشرسةِ ضدَّ الشعبِ الفلسطينيِّ المرابطِ في قطاعِ غزة، وما تضمنتهُ من أهدافٍ معلنةٍ ومضمرةٍ على مدارِ الشهورِ الأربعةِ الماضية؟
في الثالثِ والعشرينِ من فبراير/شباط الجاري، طوت الحربُ الروسيةُ الأوكرانيةُ عامها الثاني، لكنها ما زالت تراوحُ في مكانِها، إذ لم تنتصر روسيا وتحققُ أمانيها، ولم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من تحقيقِ نصرٍ لأوكرانيا، على الرغمِ من الدعمِ السخيِّ المقدَّمِ لأوكرانيا من أسلحةٍ ومعداتٍ قتاليةٍ متطورة، وتدريبٍ مكثف، وتخطيطٍ دقيقٍ وإدارةٍ محكمةٍ للمعارك، تلك الجهودِ التي توقعَ المسؤولونَ الأمريكيون أن تستمرَّ لأكثرَ من خمسةِ أعوام، الأمرُ الذي أثارَ مخاوفَ جمةً لدى العديدِ من المراقبين من أن تتطورَ هذه الحربُ إلى صراعٍ عالميٍ شامل.
لقد كانَ بوسعِ الولاياتِ المتحدةِ امتلاكُ حلولٍ جمةٍ لتقصيرِ أمدِ الحربِ والحيلولةِ دونَ تدميرِ قطاعِ غزةِ وقتلِ المدنيين، وتخفيفِ حدةِ الارتباكِ الذي يعتري الوضعَ الإقليميَّ والدوليَّ برًا وبحرًا، ودحضِ زيفِ المبادئِ والقيمِ التي تدعي تبنيها، وذلك باللجوءِ إلى الحوارِ والحلولِ السياسيةِ لتسويةِ الأزماتِ المستعصية.
دلائلُ وافتراضات
في غضونِ استمرارِ العدوانِ الغاشمِ على قطاعِ غزة، وتواصلِ مسلسلِ التدميرِ والقتلِ والمعاناةِ الإنسانيةِ المروعة، والذي يُزهقُ فيهِ أرواحُ ما يقارب 200 شهيدٍ وأكثرَ من 500 جريحٍ من المدنيينَ العُزَّلِ يوميًا، وفي ظلِّ المساعي الحثيثةِ والجهودِ المضنيةِ لإيجادِ حلٍ يضعُ حدًا لهذهِ الحربِ المأساويةِ ويفتحُ الطريقَ أمامَ التحركاتِ السياسيةِ الجادة؛ بدأت المنطقةُ تشهدُ تحركاتٍ متصاعدةً وممنهجةً تقودُها الولاياتُ المتحدةُ بهدفِ توسيعِ نطاقِ الصراع، الأمرُ الذي قد يدفعُ بالعديدِ من الدولِ الإقليميةِ إلى إعادةِ تقييمِ مواقفِها وتحديدِ وجهتِها إزاءَ التغيراتِ المحتملةِ في حالِ تفجرِ الصراع، والذي قد يفضي إلى حربٍ عالميةٍ باتتْ مطلبًا ضروريًا وإستراتيجيًا للكثيرِ من دولِ العالمِ في هذهِ المرحلةِ الحرجة.
ثمةَ دلائلُ عديدةٌ تدفعُنا إلى التحدثِ عن احتمالاتِ نشوبِ حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ في منطقةِ الشرقِ الأوسط، والتأكيدِ على أن ما يجري في قطاعِ غزةَ ما هو إلا عاملٌ واحدٌ من بينِ عواملَ أخرى قد تؤدي إلى اندلاعِ هذهِ الحرب، ومن أبرزِ هذهِ المؤشراتِ ما يلي:
- ما زالت الإدارةُ الأمريكيةُ تقدمُ دعمًا سافرًا ومكشوفًا للكيانِ الصهيونيِ في جرائمهِ البشعةِ في قطاعِ غزة، على المستوياتِ السياسيةِ والعسكريةِ والإعلامية، وكأنهُ يخوضُ حربًا بالوكالةِ نيابةً عنها.
فحربُ الإبادةِ الجماعيةِ المروعةِ التي تجري في قطاعِ غزةَ تتجاوزُ في حقيقتها مجرد ردةِ فعلٍ انتقاميةٍ من الكيانِ الصهيونيِ على هجومِ "طوفانِ الأقصى" الذي استهدفَ مستوطناتِ غلافِ قطاعِ غزةَ في السابعِ من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ورغبتَهُ الجامحةِ في الانتقامِ وتأمينِ حدودِه مستقبلًا مع قطاعِ غزة.
وكانَ بإمكانِ الولاياتِ المتحدةِ انتهاجُ مساراتٍ عديدةٍ لتقليصِ أمدِ الحربِ ومنعِ تدميرِ قطاعِ غزةَ وقتلِ المدنيين، وتخفيفِ حدةِ الفوضى التي تعمُ الوضعَ الإقليميَّ والدوليَّ برًا وبحرًا، والحد من تنامي حالة السخطِ والغضبِ الشعبيِّ المتصاعدةِ جراءَ هذهِ الأحداثِ المأساوية، وتقويضِ صورةِ الولاياتِ المتحدة، وفضحِ زيفِ القيمِ والمبادئِ التي تتشدقُ بها، والتي تؤكدُ دائمًا على أهميةِ اللجوءِ إلى الحوارِ والحلولِ السياسيةِ لتسويةِ الخلافاتِ الثنائيةِ أو المتعددةِ الأطراف.
- إن الجبهةَ الشماليةَ والعملياتِ التي ينفذُها حزبُ اللهِ ما زالتْ خاضعةً لقواعدِ اشتباكٍ محددة، على الرغمِ من أن ما يقومُ بهِ حزبُ اللهِ لا يختلفُ كثيرًا من الناحيةِ العسكريةِ والفكريةِ عما قامت بهِ حركةُ حماسَ والمقاومةُ الفلسطينيةُ المسلحة، فهو يتبنى الرؤيةَ ذاتَها التي تتبناها إيرانُ وحماسُ والجهادُ حولَ الكيانِ الصهيوني، وقد انخرطَ في الحربِ نصرةً لحماسَ والمقاومةِ في غزةَ بعدَ "طوفانِ الأقصى".
ووفقًا لبياناتِ الحزب، فقد نفذّ في الأشهرِ الثلاثةِ الأولى ما يقارب 700 ضربةٍ ضدَّ الأهدافِ الإسرائيليةِ شملت 48 موقعًا ونقطةً عسكريةً إسرائيلية، كما استهدفَ 17 مستوطنةً على الحدود، مكبدًا الجيشَ الصهيونيَّ في هذهِ المواجهات خسائرَ فادحةً تمثلت في جرحِ أكثرَ من ألفيْنِ من أفراده.
وفي المقابل، ذكرت مصادرُ الجيشِ الإسرائيليِّ أن قواتِهِ هاجمتْ حوالي 3500 هدفٍ لحزبِ اللهِ منذُ بدايةِ الحرب، ودمرت لهُ 150 خلية، متسببةً في مقتلِ 200 شخص، بينما أعلنَ حزبُ اللهِ أن حصيلةَ قتلاهُ بلغتْ حتى الآن 179 شهيدًا.
وعلى الرغمِ من التهديداتِ المتواصلةِ التي يطلقُها الكيانُ الصهيونيُّ ضدَّ حزبِ اللهِ بأنهُ إذا لم يتوقفْ، فإن مصيرَ بيروتَ سيكونُ مماثلًا لمصيرِ غزة، إلا أن الوضعَ على الجبهةِ الشماليةِ ما زالَ على حالِه، وكلا الطرفينِ ملتزمٌ بقواعدِ الاشتباكِ مع الطرفِ الآخر.
- على الرغمِ من إعلانِ إيرانَ عن دعمِها لحركاتِ المقاومةِ الفلسطينية، وتأييدِها لها في حربِها ضدَّ الكيانِ الصهيوني، فإنها ما زالتْ حتى الآن تتحرى المنهجَ السياسيَّ والدبلوماسيَّ في التعاملِ مع ما يجري في قطاعِ غزة، وتتبنى لغةً شديدةَ الحذر، حتى في الردِ على الهجماتِ الإسرائيليةِ التي تعرضتْ لها داخلَ إيرانَ وسوريا، وذلك تجنبًا للانزلاقِ في مواجهةٍ مع الولاياتِ المتحدةِ وحلفِ الناتو قبلَ إتمامِ التحالفاتِ الدوليةِ التي تحققُ لها توازنَ الردعِ في المقابل.
مؤشراتٌ جمةٌ تدعونا إلى تعميقِ النظرِ في الأحداثِ الجاريةِ من حولنا، وعدمِ الاكتفاءِ بالظاهرِ منها فقط، فما يبدو لنا على السطحِ، تمتدُ جذورهُ في الأعماقِ، وفقًا لحجمِ القوى وطبيعةِ العملياتِ التي تديرُها لتحقيقِ أهدافِها القريبةِ والبعيدة، بما يضمنُ لها التفوقَ والهيمنة.
- إن ما يجري في البحرِ الأحمر، من استهدافِ النظامِ الحوثيِّ للسفنِ المتجهةِ إلى الكيانِ الصهيونيِّ يثيرُ الكثيرَ من التساؤلاتِ حولَ حقيقةِ ما يدورُ هناك، لأن الكثيرَ مما يجري هناك يبدو غيرَ مفهوم، وربما هو مفتعلٌ في بعضِ الأحيانِ أو لهُ أهدافٌ تتجاوزُ مقاصدَهُ الحقيقيةَ بكثير، فلماذا أساسًا تضطرُ سفنُ المساعداتِ إلى الدخولِ من البحرِ الأحمر، في حينِ أن الطرقَ البحريةَ لإيصالِ هذهِ المساعداتِ من أوروبا والولاياتِ المتحدةِ مفتوحةٌ أمامَها عن طريقِ البحرِ المتوسط، وأقصرُ مسافة، وأقلُ وقتًا وتكلفة؟
ولماذا تصرُ السفنُ التجاريةُ المتجهةُ إلى الكيانِ الصهيونيِّ على المرورِ في مضيقِ البحرِ الأحمرِ على الرغمِ من تهديداتِ الحوثي؟ ولماذا تأخرَ الردُ الأميركيُّ البريطانيُّ على الحوثيين؟ وإذا كانت الولاياتُ المتحدةُ ستشنُ هجماتِها بصورةٍ مشتركةٍ مع بريطانيا، لماذا تأخرتْ كلُ هذا الوقتِ لحينِ تشكيلِ تحالفٍ دوليٍ ضدَّ الحوثيينَ في البحرِ الأحمر؟ كيف يعقلُ أن الحوثيينَ يتحكمونَ في ممرٍ بحريٍ دوليٍ كالبحرِ الأحمر، ولا تستطيعُ الولاياتُ المتحدةُ مواجهتَهُ إلا بتحالفٍ دولي؟ أين الأممُ المتحدة؟ وأين مجلسُ الأمنِ من ذلك؟
- لم يكن للعملياتِ العسكريةِ في الجبهةِ الشماليةِ للكيانِ الصهيوني، وفي البحرِ الأحمر، ولا صواريخِ الحوثي الباليستيةِ ضدَّ إيلات، ولا العملياتِ العسكريةِ ضدَّ القواعدِ الأميركيةِ في سوريا والعراق، أيُ دورٍ في الضغطِ على الكيانِ الصهيونيِّ لإجبارِهِ على إيقافِ الحرب، والتخفيفِ من معاناةِ الشعبِ الفلسطيني. الدورُ الأكبرُ الذي يمكنُ رصدُهُ لهذهِ العملياتِ هو زيادةُ التوترِ في المنطقة، والقلقُ من اتساعِ رقعةِ المواجهات.
كانت هذهِ مجردُ إشارات، تدعونا إلى إمعانِ النظرِ في الأحداثِ التي تجري من حولِنا، وعدمِ التوقفِ عندَ ظاهرِها فقط، فما يظهرُ لنا على السطح، تمتدُ جذورُهُ في الأعماق، وفقًا لحجمِ القوى وطبيعةِ العملياتِ التي تديرُها لتحقيقِ أهدافِها القريبةِ منها والبعيدة، بما يضمنُ لها التفوقَ والهيمنة.
وقد يرى البعضُ أن مثلَ هذا الحديثِ ينطوي على ضربٍ من المبالغةِ، أو خروجٍ عن السياقِ إلى سياقاتٍ غيرِ واقعية، إلا أن ما يدفعُنا إلى التمعنِ في هذهِ المؤشراتِ وأشباهِها، والتفكيرِ مليًا في احتمالاتِ ارتباطِها بأحداثٍ مستقبليةٍ أضخمَ مما نتوقع، هو أن الحربَ العالميةَ أصبحتْ مطلبًا ملحًا تفرضه القوى الدولية المهيمنة الرسمية وغير الرسمية.
كما أن الحربَ العالميةَ لا تندلعُ فجأةً مثل "طوفانِ الأقصى" أو غيرِها من الحروبِ الخاطفة، وإنما يسبقُها الكثيرُ من التحركاتِ والعملياتِ على مختلفِ الأصعدة، تمهدُ الطريقَ لاندلاعِ الحربِ العالمية، التي ليسَ بالضرورةِ أن تكونَ حربًا نووية، فقد خاضَ القطبانِ الأميركيُّ والسوفياتيُّ بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ حروبًا طويلةً على مدى عقودٍ عديدة، أزهقتْ أرواحُ ملايينِ البشر، دون أن تستخدمَ فيها أيُ أسلحةٍ نووية.
